المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال الشارح: [المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار؛ فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بجميع ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذا الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، كما قال تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27]، وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )، وقال أيضاً: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ) ونظائر هذا.
وأما من يحرمه فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن؛ كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكّاكة.
وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تبارك وتعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلنّ جميعكم أو بعضكم؛ لأن علم أن بعضهم يموت]
.
هذا الجواب عن الآية استطراد من الشارح أو نتيجة، والمقصود: بيان المأخذ الثاني من أقوال هؤلاء، وهو الذي قال به -كما ذكر الشيخ رحمه الله- بعض السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في هذه المسألة، وقد حاولت أن أجمع أقوال القائلين بالاستثناء، والقائلين بعدم الاستثناء من السلف الصالح؛ لأن هذا هو الذي يهمنا، ثم بعد ذلك نجيب عما فهمته الطائفة التي أوجبت الاستثناء، ووافقتْ بعض السلف في قولهم في الاستثناء؛ دون أن يأخذوا كلام السلف الذي يمكن أن يجمع بين أطرافه.
  1. القائلون بعدم الاستثناء في الإيمان وأدلتهم

    وأجمع المصادر في ذلك هو كتاب: تهذيب الآثار وتفصيل معاني الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار للإمام محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير ، الإمام المعروف، وهو بتحقيق الدكتور ناصر الرشيد ، والشيخ عبد القيوم عبد رب النبي ، وهذا في الجزء الثاني منه، وقد ذكر الإمام الطبري رحمه الله تعالى هنا أسماء الأئمة القائلين بعدم الاستثناء في الإيمان من السلف في (2/185) في الأثر رقم (1486)، فسنذكرهم، ثم نعقب بذكر من يخالفهم وهم القائلون بالاستثناء.
    يقول الإمام محمد بن جرير رحمه الله في هذا الأثر (1486): (حدثني أحمد بن بديل قال: قال أبو معاوية : قال أصحابنا: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يثبت الإيمان، ولا يرى الاستثناء).
    قوله: (قال أصحابنا) يعني: جماعة من العلماء، والمهم عندنا هو ذكر الأسماء، وبعضها فيها اختلاف، لكن المقصود ذكر جملة الأسماء، ومعنى (يثبت الإيمان) أي: لا يستثني فيه، ولا يقيده، وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هو من أكثر من ورد عنه من الصحابة القول بالاستثناء في الإيمان، فالعلماء ذكروا الاختلاف عنه، والذي يترجح لي من خلال ما قرأت ونظرت أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كان ممن يرى الاستثناء، ويلحظ في ذلك التزكية، وكمال الإيمان، فهو يرى أن قول الإنسان أنا مؤمن؛ هو تزكية، ولا ينبغي أن يزكي نفسه، ويرى أن ذلك أيضاً يستلزم كمال الإيمان، والشهادة لصاحبه بالجنة، وهذا ينبغي أن يتورع عنه الإنسان.
    ذكر الإمام الطبري هنا الأول: عبد الله بن مسعود ، والثاني: عبد الله بن عمر ، ولم أجد من ذكره مسنداً، والثالث: عبد الله بن يزيد الأنصاري ، والرابع: محمد بن الحنفية ، قال: وإبراهيم اختلف علينا فيه، وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى موقف إبراهيم النخعي ، وهو تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وكذلك سنذكر إبراهيم التيمي معاصره، قال: وعمرو بن مرة ، وهو السادس، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو السابع، وعاصم بن كليب الجرمي ، وهو الثامن، والضحاك المشرقي ، وهو التاسع، وعطاء بن أبي رباح ، وهو العاشر، وعمر بن ذر ، وهو الحادي عشر، ومقاتل بن حيان ، وهو الثاني عشر، والثالث عشر: عبد العزيز بن أبي دؤاد ، ولعل الصحيح: عبد العزيز بن أبي رواد ، وليس: ابن أبي دؤاد ، والرابع عشر: عبد الكريم ، والخامس عشر: أيوب بن عائذ ، والسادس عشر: علقمة بن مرثد ، والسابع عشر: محارب بن دثار ، وقد كان قاضي الكوفة في تلك الأيام، الثامن عشر: عبد الأعلى ، التاسع عشر: مسلم النحات ، العشرون: حماد بن أبي سليمان ، الحادي والعشرون: مسعر بن كدام ، الثاني والعشرون: أبو إسحاق الشيباني ، و زر بن حبيش ، وهو أيضاً تلميذ لـعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فيكون الثالث والعشرون، وسعيد بن جبير ، وهو الرابع والعشرون، وطلق بن حبيب ، وهو الخامس والعشرون.
    يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى عن هؤلاء: (كلهم يثبتون الإيمان) أي: لا يستثنون فيه، ولا يقيدونه، بل يقول الواحد منهم: أنا مؤمن بدون قيد، ويضاف إليهم إمام عظيم، وعلم جليل جاء السند عنه أيضاً، وسنذكر ذلك من كتاب الإيمان لـأبي عبيد وغيره، وهو: معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.
    والإمام الطبري رحمه الله بعد أن أورد أسماء هؤلاء خصه بالرواية عنه بذكر السند، فقال: (حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة عن سلمة بن سبرة قال: [ خطبنا معاذ فقال: أنتم المؤمنون، وأنتم أهل الجنة -وهذا جزم- والله! إني لأرجو أن من تصيبون من فارس والروم يدخلون الجنة ])، ومعاذ رضي الله تعالى عنه كان عالم الشام ، فقد كان في حمص في بلاد الشام ، فهو هنا يبشر المؤمنين ويقول لهم: (إنكم أنتم المؤمنون، وأنتم أهل الجنة) ويضيف: ([ والله! إني لأرجو أن من تصيبون من فارس والروم يدخلون الجنة ])، يعني: من تدعونه من فارس والروم، فهم أيضاً من أهل الجنة فضلاً عنكم أنتم، يقول: ([ ذلك أن أحدهم إذا عمل لأحدكم العمل قال: أحسنت رحمك الله! أحسنت غفر الله لك! ثم قرأ: (( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ))[الشورى:26]]).
    وسنذكر بعض الآثار المسندة عنه بالسند الأعلى من كتاب الإيمان (ص11) لـابن أبي شيبة ، وهو ضمن الرسائل الأربع التي حققها الشيخ ناصر الألباني رحمه الله، ففي (ص11/33) يقول الإمام ابن أبي شيبة: (حدثنا عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن شقيق عن سلمة بن سبرة قال: [خطبنا معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: أنتم المؤمنون، وأنتم أهل الجنة]) فقط، فعلق عليه الشيخ ناصر الألباني رحمه الله فقال: (في سنده مجهول وهو سلمة بن سبرة هذا، أورده ابن أبي حاتم برواية شقيق فقط عنه، وشقيق أدرك -كما يظهر- معاذاً ولقيه.
    فالأثر من طريق شقيق يكون متصلاً، لكنه من طريق شقيق عن سلمة بن سبرة فيه رجل مجهول. قال: وكذا أورده ابن حبان في الثقات : أي: من غير ذكر هذا الرجل).
    إذاً: فؤلاء خمسة وعشرون ويلحق بهم معاذ رضي الله عنه.
  2. السلف القائلون بالاستثناء في الإيمان وأدلتهم

    ثم جاء الإمام الطبري رحمه الله (193) ليعدد لنا الأئمة والعلماء المخالفين تحت الأثر رقم (1513)، فقال: (حدثني أحمد بن أبي شريح الرازي قال: سألت أبا سلمة الغزالي فقلت: [ يا أبا سلمة! إذا سئلت أمؤمن أنت ما تقول؟ قال: أقول: مؤمن إن شاء الله، قلت: من أدركت ممن يستثني؟ قال: الناس إلا من قلّ، قلت: سمهم لي، قال: شريك ، و أبو بكر بن عياش ، و حماد بن زيد، والناس إلا من لا يعبأ به ]).
    ثم ذكر أقواماً بأسانيده، وقال: (فهؤلاء الذين حضرنا ذكرهم ممن روي عنه إنكار القول) ثم أخذ يرجح.
    والمقصود هنا: أن أبا سلمة الغزالي نقل عن هؤلاء الذين سموا أنهم يستثنون، ويطلق القول أيضاً أن هناك أناساً كثيرين يستثنون، فيحتمل أنهم ممن أيضاً نقل عنه تركه، فقد ذكرنا أن السلف لهم اعتباران، فيحتمل هذا ويحتمل هذا، فلا تعارض بين قول من استثنى من السلف، وبين من رأى عدم الاستثناء، كما سيتضح ذلك عندما سنجمع بين الأقوال إن شاء الله؛ لأنهم لم يكن فيهم من يوجب أو يمنع بغير اعتبار، أو من يمنع مطلقاً، فما دام الأمر مجرد ورود الاستثناء أو عدم الاستثناء فيحتمل أنه يستثني مرة باعتبار، ولا يستثني مرة باعتبار، أو ينهى على سبيل الكراهية، أو يأمر على سبيل الاستحباب.
    والطبري رحمه الله يرجح القول بالاستثناء؛ فبعد أن ذكر الأقوال والأخبار قال: أما الدلالة على أن قول القائلين بما ذكرت من إنكارهم قول القائل: (إني مؤمن بغير وصل باستثناء، ولا تقيد بشرط؛ أولى بالصواب من قول من خالفهم في ذلك.. إلخ)، وقد قلت: إن القول إذا تنازع فيه العلماء كان أولى ذلك بالصواب ما قامت حجته، وثبتت في العقول صحته؛ قيل: أما الدلالة على صحة قولهم من كتاب الله تعالى ذكره: فقوله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:2-4] فأخبر جل ثناؤه أن المؤمن هو من كانت هذه الصفة صفته دون من قال ولم يعمل؛ ولكنه ضيع ما أمر به وفرط.
    فهو يقول: إن المؤمن المذكور هنا هو المؤمن الحقيقي؛ فلذلك لا بد أن يستثني؛ لأنه لا يضمن أن يكون مؤمناً حقيقياً، أو مؤمناً كامل الإيمان.
    ثم ذكر أثراً عظيماً لا بأس أن نعيده، وقد ذكرناه في جملة كلام الإمام أحمد الذي تقدم في أول كتاب الإيمان ، فذكر بسنده إلى إبراهيم بن الأشعث قال: (سمعت الفضيل بن عياض يقول: يا سفيه ما أجهلك! ألا ترضى أن تقول: أنا مؤمن؛ حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان، لا والله! لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدي ما افترض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك ألا يتقبل منه.
    إذاً: فـالفضيل بن عياض رحمه الله تعالى هو أيضاً ممن يرى الاستثناء، وهذه حجته، وقد تقدم شرحها، ونفهم من كلامه أنه للإرشاد، ولا يرى الإيجاب؛ لأنه يمكن أن يقول الإنسان: أنا مؤمن ولا يقصد استكمال الإيمان.
    ثم ذكر الإمام الطبري دليلاً لهؤلاء، وهو من أقوى الأدلة فيما رأيت، وقد تنبه له الإمام الطبري رحمه الله، وهو حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتقدم، وقد رواه هو بسنده، ولفظه يختلف عن ما في البخاري ، قال سعد : ( قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة فأعطى رجلاً ولم يعط آخر، فقيل: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وهو مؤمن، وتركت فلاناً وهو مؤمن، فقال: إني لأعطي أقواماً وأدع أقواماً؛ مخافة أن يكبهم الله على وجوههم في النار ) ورقمه عنده في (2/195/1520)، وأما أثر عياض (1512 ص: 193)، وأما لفظ البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أو مسلماً )، فكلما كرر سعد : ( إني أراه مؤمناً، قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً ).
    فنفهم من هذا الدليل أنه يصح الاستدلال به لمن يرى الاستثناء، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يرشد سعداً ألا يجزم، فلو قال سعد رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! إني لأراه مؤمناً إن شاء الله) فربما لم يعب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
  3. الجمع بين قولي السلف في مسألة الاستثناء في الإيمان

    هذا هي جملة ما وجدناه من الأقوال، وبعض هؤلاء ذكره الإمام أبو عبيد رحمه الله في كتابه، وهو ضمن هذه الرسائل الأربع، وهي الرسالة الثانية، فالرسالة الأولى هي الإيمان لابن أبي شيبة ، والرسالة الثانية هي الإيمان لأبي عبيد ، وقد رأيت أنه لا بأس أن نقدم الجمع بين أقوال السلف منه، ثم نذكر بعد ذلك الآثار عنهم بالتفصيل.
    يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في (ص68): وإنما كراهتهم عندنا -يعني: القائلين بإثبات الإيمان بغير استثناء- أن يثبتوا الشهادة بالإيمان؛ مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية، والاستكمال عند الله.
    إذاً فمأخذ السلف هو ما ذكره الشارح رحمه الله عندما قال: المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله. فقوله فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله؛ هو الاستكمال، والتزكية، أي: أن يزكي العبد نفسه.
    إذاً: فهذا هو المأخذ الذي أخذه السلف، وهو الثاني عند أولئك، وهو عند السلف المأخذ الوحيد، وقد نجعله اثنين فتكون التزكية واحد، والاستكمال واحد، فالسلف لم يكونوا ينظرون إلى ما سماه الأشعرية الموافاة، وهو الأول الذي تقدم.
    إذاً: يقول: الذي جعل السلف يكرهون إثبات الإيمان بغير استثناء: هي كراهيتهم التزكية، أو الاستكمال عند الله -أي: اعتبارهم للتزكية- والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهادتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان.
    يعني: أننا لو نظرنا إلى الدين باعتبار المراتب فالناس: أهل القبلة، وأهل الملة، والساكنون في ديار الإسلام وبلاده هم مسلمون، فالقول بأنهم مؤمنون في ظاهر أحكام الدنيا معناه: أنهم مسلمون وليسوا بكفار؛ ولهذا ذكر هذا ووضحه في المعاملات الظاهرة، وهي الولاية؛ فلهم علينا الولاية، أي: أن نواليهم في الله، وفي الدين، والإيمان، (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ))[الحجرات:10]، ( المسلم أخو المسلم )، ( كونوا عباد الله إخواناً ) إلى غير ذلك.
    يقول: (وذبائحهم) فإن ذبائحهم تؤكل، وكذلك شهاداتهم، وهذه يدل عليها الحديث الصحيح الذي تقدم مراراً وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس وغيره: ( من صلَى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو مسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا )، إذاً: فهذا المقصود بالإيمان: أنه مسلم وليس بكافر، أي: من كان مثلنا في الأحكام الظاهرة فهو منا، ولا نكفره بمجرد فعل ذنب من الذنوب، وإن زنى، وإن سرق، وإن خان الأمانة، وإن كذب في الحديث، وإن عق الوالدين، وإن فعل ما فعل من الكبائر والمحرمات؛ ما لم يرتكب الشرك الأكبر، والكفر المخرج من الملة؛ فهو لا يزال له اسم الإسلام، فإذا قلنا: إنه مؤمن؛ فالمقصود: أنه مسلم، وهذا واضح إن شاء الله مما تقدم.
    يقول: (وجميعهم سنتهم إنما هي على الإيمان).
    يعني: أنهم في كل أحكامهم ومعاملاتهم على أساس عقد الإسلام، وأنهم مسلمون. قال: (ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين) أي: أن الأوزاعي رحمه الله تعالى وغيره من السلف تنبهوا إلى أن المسألة ليست خلاف تضاد، وإنما هي باعتبار، فكل يخالف الآخر باعتبار، فإذا اتفقا في الاعتبار لم يختلفا، فكان الأوزاعي رحمه الله تعالى يرى ذلك.
    وفي الأثر السادس من كتاب الإيمان لأبي عبيد وهو في (ص69) من مجموع الرسائل الأربع؛ قال أبو عبيد: (حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: [ من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن ]).
    إذاً: فهذا إمام عظيم لا تخفى جلالته وفضله وقدره في الأمة، وقد جمع بين أقوال السلف في هذا.
  4. تساهل أهل الشام في مسألة الاستثناء في الإيمان

    ولو تأملتم فإنكم تجدون أن أهل الشام كـمعاذ رضي الله تعالى عنه، وكذلك الأوزاعي -وهو من أهل الشام - وأمثاله، وتلميذ معاذ سيأتي ذكره وهو الحارث بن عميرة وغيرهم كانوا يرون التخفيف في المسألة، وأما أهل العراق فيشددون: إما في الاستثناء، وإما في النفي؛ لأن أهل العراق كان فيهم الإرجاء، وكان فيهم الخروج، فكان بعض السلف يراعي قول الخوارج فيقول: نحن مؤمنون، ونحن مسلمون؛ مراعاة لقول الخوارج : إن الأمة كفرت وارتدت إلا من كان معهم؛ والعياذ بالله، وبعض السلف من أهل العراق الذين في الكوفة وما حولها يراعون وينظرون إلى كلام المرجئة ، فهم يقولون: إذا قال: أنا مؤمن؛ فهو مستكمل الإيمان، أي: أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.
    إذاً: لا خلاف في الحقيقة، وأما أهل الشام فقد كانوا في راحة، قال الأوزاعي فيما رواه عنه اللالكائي وغيره: [ وقد كان أهل الشام في راحة وفي غفلة عن هذه البدعة ] -أي: بدعة الإرجاء- حتى جاءهم بعض أهل العراق ممن يحمل هذه الأفكار -أي: فكرة الإرجاء- وأما الخوارج فلم يكونوا في الشام وإنما كانوا في العراق إلا أنه كان منهم هناك بضعة نفر.
    فيقول الأوزاعي: ( [ من قال: أنا مؤمن؛ فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فحسن؛ لقول الله عز وجل: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون ])، وهذه هي الآية التي ذكرها الشارح هنا، وسوف نذكر وجه الاستدلال بها، ونذكر تفصيل الأجوبة التي أجابوا بها عليها، وبيان خطأ تلك الأوجه؛ ككلام الزمخشري وغيره.
    يقول الإمام أبو عبيد رحمه الله تعالى: (وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ . وعبد الله هذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وصاحب معاذ هو الحارث بن عميرة).
    وإذا رجعنا إلى كتاب الإيمان لابن أبي شيبة فإنا نجد هذا الأثر في (ص:24) رقم (76)، قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله تعالى: (حدثنا أبو معاوية عن داود بن أبي هند عن شهر بن حوشب وهو ضعيف)؛ فلذلك يكون الأثر ضعيفاً، لكن يستأنس به؛ لأنه ليس شديد الضعف، ولا هو متهم بالكذب في مثل هذه الأمور، فيؤخذ هذا الكلام ويستأنس به إن شاء الله، فهذه المسألة الأمر فيها هين، والرأي فيها متقارب- عن الحارث بن عميرة الزبيدي قال: (وقع الطاعون بـالشام -أي: في السنة الثامنة عشرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فقام معاذ بـحمص فخطبهم فقال: [ إن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم ])، فانظر إلى مواعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أبلغها، وما أوجزها، وما أعظمها، فقد كان الناس في خوف، وفي قلق، وفي رعب؛ لأن الطاعون إذا وقع فإنه يفتك بالناس بالآلاف، بل بالملايين، فيهلعون ويذعرون كعادة الخلق إلا من ثبته الله بالإيمان، فلما رأى معاذ هذا الحال، وهذا الاضطراب في الناس قام رضي الله تعالى عنه خطيباً في أهل حمص فقال: ([ إن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، اللهم اقسم لآل معاذ نصيبهم الأوفى منه ]) حتى يطمأنوا، فدعا الله أن يقسم له ولآل بيته النصيب الأوفى منه؛ لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطاعون شهادة لمن أصابه، قال: ([ فلما نزل من على المنبر أتاه آت فقال: إن عبد الرحمن بن معاذ قد أصيب -أي: ولد معاذ - فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انطلق نحوه، فلما رأى عبد الرحمن بن معاذ أباه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال يا أبتِ! الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ]) انظر إلى تربية الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأبنائهم، قال: [ يا أبت! الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، فقال معاذ رضي الله تعالى عنه: ستجدني إن شاء الله من الصابرين ] ، فالابن هنا يعظ أباه ويذكره بأن الحق قد أتى، والأب يقول لابنه: يا بني! سأكون صابراً كما أمر الله.
    قال: ([ فمات آل معاذ إنسان إنسان -يعني: واحداً واحداً- حتى كان معاذ آخرهم ])، وهذا من فضل الله عليه: أن يكون هو آخرهم؛ حتى يحتسبهم، فيكونوا في ميزان حسناته.
    قال: ([ فأصيب فأتاه الحارث بن عميرة الزبيدي يعوده ])، والحارث هذا من التابعين، وهو تلميذ معاذ وتلميذ ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، قال: ([ وغشي على معاذ غشية وأفاق معاذ والحارث يبكي، فقال معاذ : ما يبكيك؟ قال: أبكي على العلم الذي يدفن معك ])، فقد كان التابعون يقدرون هذا العلم؛ لأنه أعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله تعالى عنه، قال: ([ أبكي على العلم الذي يدفن معك، فقال: إن كنت طالب العلم لا محالة فاطلب من عبد الله بن مسعود ])، فنصحه أن يرحل إلى الكوفة ليطلب العلم من عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: ([ ومن عويمر أبي الدرداء ، ومن سلمان الفارسي ])، فأوصاه ونصحه بهؤلاء الجلة الخلص والكمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال له: ([ وإياك وزلة العالم ])، أي: مع حرصك هذا الشديد على العلم، ومع أني أدلك على هؤلاء العلماء، ([ إياك وزلة العالم ]) ولو كان أحد هؤلاء الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعيار دائماً عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمن بعدهم من السلف ليس في أن العلماء قالوا، أو أن فلاناً قال، وإنما هو بالحق من الكتاب والسنة، قال: [ فقلت: وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها؟ ]، وهذا سؤال عظيم جداً، فهنا يوصيه ويقول له: انتبه من زلات العلماء، فالسؤال الذي يتبادر: وكيف لي أن أعرفها؟ قال: [ للحق نور يعرف به ].
    وفي رواية الحلية : ([ واقبل الحق وإن جاءك من منافق ]) أي: انتبه من زلة العالم، وخذ الحق واقبله وإن جاءك من منافق، فالسؤال هنا: وكيف أعرف زلة العالم من حق وصواب المنافق؟ وهنا تكون الحيرة، فقال له: ([ للحق نور يعرف به ]) أي: وإن جاءك من منافق، والخطأ أو الزلة تعرفها وإن جاءت من عالم جليل ثقة، والإنسان عليه أن يستفتي قلبه، ومن هنا كان أهم شيء لإصلاح دين الإنسان وعلمه أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى في طلب العلم، وأن يريد به وجه الله، وأن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فحينئذ يظهر له ذلك بقدر إيمانه، وإخلاصه، ودعائه، وتوفيق الله تبارك وتعالى له، فيظهر له الفارق بين الزلة، وبين قول الحق من المنافق، فيأخذ الحق وإن جاء من منافق.
    ولا يعني هذا أن كل أحد يحصل له ذلك، لكن على الأقل لا تأخذ بزلات كثيرة، أو تتنبه لزلات كثيرة، وفي نفس الوقت لا تترك خيراً كثيراً؛ بحجة أن أهله فيهم نفاق، أو فيهم بدعة، أو فيهم شر أو فيهم معاصٍ، فربما نطق أولئك بما هو حق دل عليه الكتاب والسنة، وعليه نور الكتاب والسنة، ونور الحق، وإن كان صدر عن أناس قلوبهم اختلط فيها النور بالظلمة.
    قال: ([فمات معاذ رحمة الله تعالى عليه، وخرج الحارث يريد عبد الله بن مسعود -أي: أنه يعمل بالوصية- في الكوفة ، فانتهى إلى بابه فإذا على الباب نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود يتحدثون، فجرى بينهم الحديث])، وهذا الرجل جاء من الشام وهو غافل عن المشكلة هذه، وليس عنده أي إشكال فيها، وكما قلنا: إن الإشكالات والمشاكل والفتن كانت في العراق، قال: ([فجرى بينهم الحديث حتى قالوا: يا شامي! أمؤمن أنت؟ فقال: نعم، فقالوا: من أهل الجنة؟]) فأجاب بجواب يدل على علم وفقه، فقال لهم: ([إن لي ذنوباً وما أدري ما يصنع الله فيها، ولو أعلم أنها غفرت لي لأنبأتكم أني من أهل الجنة]) أي: فالذي يحول بيني وبين الجنة هي الذنوب، وأما الإيمان فموجود، ولو علمت أن الله يغفرها لي لقلت لكم: نعم، قال: ([فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم عبد الله ، فقالوا: ألا تعجب من أخينا هذا الشامي؛ يزعم أنه مؤمن، ولا يزعم أنه من أهل الجنة؟ فقال عبد الله : لو قلتُ إحداهما لأتبعتُها الأخرى])، وهذا رواه أكثر من واحد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أي: لو قلت: أنا مؤمن؛ لقلت: أنا من أهل الجنة.
  5. تعليل بعض السلف للاستثناء في الإيمان

    إذاً: فأنا لا أقول: إني أنا مؤمن وأجزم بذلك، وإنما أقيد ذلك فأقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو أقول: أنا مسلم، أو: أنا مؤمن ولا أدري ما حالي، فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه تلزمها تلك.
    إذاً: فهو نظر إلى مثل ما نظر إليه الطبري رحمه الله؛ فقد نظر إلى الآيات: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15]، (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، فهو يرى أن هؤلاء أهل الجنة، (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ))[المؤمنون:1] إلى قوله: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ))[المؤمنون:10-11]، فهذه الصفات تستلزم أن يكون الإنسان من الوارثين للجنة، فما دمت لا أجزم بهذه إذاً فلا أقول بالأولى.
    فقال الحارث الشامي التلميذ: قال: ([ إنا لله وإنا إليه راجعون، صلَى الله على معاذ ! قال: ويحك ومن معاذ ؟ قال: معاذ بن جبل ، قال: وما ذاك؟ ]) يعني: لماذا تصلي عليه؟ وقد تقدم هذا في مبحث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تجوز الصلاة على أي أحد منفرداً، فيقال: صَلى الله على فلان، قال: ([وما ذاك؟ قال: إنه قال: إياك وزلة العالم]) أي: أنه تذكر أن هذه هي التي خوفني منها معاذ رضي الله تعالى عنه، قال: ([فأحلف بالله إنها منك لزلة يا ابن مسعود! وما الإيمان إلا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار، والبعث والميزان، ولنا ذنوب ما ندري ما يصنع الله فيها، فلو أنا نعلم أنها غفرت لقلنا: إنا من أهل الجنة، قال: فقال عبد الله : صدقت والله! إن كانت مني لزلة، صدقت والله إن كانت مني لزلة]).
    فهذا الأثر قلنا: إن في سنده ضعفاً، لكنه في الحقيقة عبرة، ولا يستبعد صدور مثله لا عن معاذ ، ولا عن عبد الله بن مسعود ، ولا عن هؤلاء النفر من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، ففطنه رضي الله تعالى عنه أنه ليس بالضرورة أننا إذا قلنا: إننا مؤمنون؛ أننا الموصوفون في آية الأنفال، أو آية الحجرات، أو آية المؤمنين، أو آيات التوبة أو غيرها مما جاء فيها ذكر المؤمنين، وإنما المقصود: أصل الإيمان عندنا، وهو: أننا نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهذه الأمور الغيبية، فنحن مؤمنون بهذا، فعندنا إذاً أصل الإيمان، وأما دخول الجنة فلا يلزم يا أبا عبد الرحمن ! لأننا مع هذا الإيمان، ومع هذا الأصل موجود لدينا لنا ذنوب، فإن غفرها الله كنا من أهل الجنة، وإن لم تغفر فلا نجزم بشيء. فهذا هو الذي ورد عنهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
    ونعود الآن إلى تفضيل الأقوال في ذلك، وأكثر من فصلها هو الإمام ابن أبي شيبة رحمه الله، وذلك ابتداء من (ص:9) من كتابه، وهي الرسالة الأولى، وقد ذكر القائلين بالاستثناء وذكر غيرهم، ونحن نريد هنا نسبة الأقوال إلى أهلها، ويمكن أن يخرج الذين يستثنون على حدة، والذين لا يقولون به على حدة، وأما هو فقد جمعهم؛ والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم لم يكن عندهم في التقعيد والتبويب مثل ما نحن عليه الآن، فيفصل هؤلاء عن هؤلاء، لكن نحن نقوم بذلك فنميز بينهم.